سورة آل عمران - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} هذا رجوع إلى وصف باقي القصة. والمراد بالسنن: ما سنّه الله في الأمم من وقائعه، أي: قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنّها الله في الأمم المكذبة، وأصل السنن جمع سنة: وهي الطريقة المستقيمة، ومنه قول الهذلي:
فَلا تَجْزَعَن مِنْ سُنَّة أنْتَ سِرْتَها *** فَأوّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرها
والسنة: الإمام المتبع المؤتمّ به، ومنه قول لبيد:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّت لَهُمْ آباؤُهُم *** وَلِكُلِ قَوْمِ سِنةٌ وإمامُ
والسنة: الأمة، والسنن: الأمم، قاله المفضل الضبي.
وقال الزجاج: المعنى في الآية: أهل سنن، فحذف المضاف، والفاء في قوله: {فَسِيرُواْ} سببية؛ وقيل: شرطية، أي: إن شككتم، فسيروا. والعاقبة: آخر الأمر، والمعنى: سيروا، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا، ثم انقرضوا، فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر. هذا قول أكثر المفسرين. والمطلوب من هذا السير المأمور به هو: حصول المعرفة بذلك، فإن حصلت بدونه، فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها، والإشارة بقوله: {هذا} إلى قوله: {قَدْ خَلَتْ} وقال: الحسن إلى القرآن: {بَيَانٌ لّلنَّاسِ} أي: تبيين لهم، وتعريف الناس للعهد، وهم المكذبون، أو للجنس، أي: للمكذبين، وغيرهم. وفيه حثّ على النظر في سوء عاقبة المكذبين، وما انتهى إليه أمرهم.
قوله: {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ} أي: هذا النظر مع كونه بياناً فيه هدى، وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى، والموعظة على البيان يدل على التغاير، ولو باعتبار المتعلق، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد، فالبيان للمكذبين، والهدى، والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس، فالبيان لجميع الناس مؤمنهم، وكافرهم، والهدى، والموعظة للمتقين وحدهم.
قوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} عزاهم، وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل، والجراح، وحثهم على قتال عدوهم، ونهاهم عن العجز، والفشل، ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوّهم بالنصر والظفر، وهي: جملة حالية، أي: والحال أنكم الأعلون عليهم، وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة.
وقد صدق الله وعده، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوّه في جميع وقعاته؛ وقيل: المعنى: وأنتم الأعلوْن عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر، فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم. وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلق بقوله: {وَلاَ تَهِنُواْ} وما بعده، أو بقوله: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} أي: إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا، ولا تحزنوا، أو إن كنتم مؤمنين، فأنتم الأعلون. والقرح بالضم، والفتح: الجرح، وهما لغتان فيه، قاله الكسائي، والأخفش.
وقال الفراء: هو: بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع: {قرح} بفتح القاف، والراء على المصدر.
والمعنى في الآية: إن نالوا منكم يوم أحد، فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم. وقيل: إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء، فأصابوا منهم جماعة، ثم انتصر الكفار عليهم، فأصابوا منهم. والأوّل أولى؛ لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه.
وقوله: {وَتِلْكَ الايام} أي: الكائنة بين الأمم في حروبها، والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوّة؛ تارة تغلب هذه الطائفة، وتارة تغلب الأخرى، كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر، وأُحد، وهو معنى قوله: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} فقوله: {تِلْكَ} مبتدأ، {والأيام} صفته، والخبر {نداولها} وأصل المداولة: المعاورة، داولته بينهم: عاورته. والدولة: الكرة، ويجوز أن تكون الأيام خبراً، ونداولها حالاً، والأوّل أولى. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} معطوف على علة مقدّرة كأنه قال: نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم، أو يكون المعلل محذوفاً، أي: ليعلم الله الذين اتقوا، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، أي: فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء، كما علمه علماً أزلياً {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} أي: يكرمهم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد، سمي بذلك؛ لكونه مشهوداً له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه، كالمشاهد للجنة، و{من} للتبعيض، وهم شهداء أحد. وقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جملة معترضة بين المعطوف، والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله.
وقوله: {وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ} من جملة العلل معطوف على ما قبله. والتمحيص: الاختبار. وقيل: التطهير على حذف مضاف، أي: ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل: يمحص: يخلص، قاله الخليل، والزجاج، أي: ليخلص المؤمنين من ذنوبهم. وقوله: {وَيَمْحَقَ الكافرين} أي: يستأصلهم بالهلاك، وأصل التمحيق: محو الآثار، والمحق: نقصها.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة، والهمزة للإنكار، أي: بل أحسبتم، والواو في قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} واو الحال. والجملة حالية، وفيه تمثيل كالأوّل، أو علم يقع عليه الجزاء. وقوله: {وَِيَعْلَمَ الصابرين} منصوب بإضمار {أن} كما قال الخليل، وغيره على أن الواو للجمع.
وقال الزجاج: الواو بمعنى حتى، وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر: {ويعلم الصابرين} بالجزم عطفاً على {وَلَمَّا يَعْلَمِ} وقريء بالرفع على القطع، وقيل: إن قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} كناية عن نفي المعلوم، وهو: الجهاد والمعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد، والصبر، أي: الجمع بينهما، ومعنى {لَمّا} معنى: {لم} عند الجمهور، وفرّق سيبويه بينهما، فجعل (لم) لنفي الماضي، و(لما) لنفي الماضي والمتوقع.
قوله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} هو خطاب لمن كان يتمنى القتال، والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر، فإنهم كانوا يتمنون يوماً يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك. وقوله: {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} أي: القتال، أو الشهادة التي هي سبب الموت. وقرأ الأعمش: {من قبل أن تلاقوه} وقد ورد النهي عن تمني الموت، فلا بدّ من حمله هنا على الشهادة. قال القرطبي: وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات، والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم؛ لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد، وإن أدّى إلى القتل. قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: القتال، أو ما هو سبب للموت، ومحل قوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} النصب على الحال، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة، أي: قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم. قال الأخفش: إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقيل معناه: بصراء ليس في أعينكم علل، وقيل معناه: وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}. سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب في يوم أُحد صاح الشيطان قائلاً: قد قتل محمد، ففشل بعض المسلمين، حتى قال قائل: قد أصيب محمد، فأعطوا بأيديكم، فإنما هم إخوانكم، وقال آخر: لو كان رسولاً ما قتل، فردّ الله عليهم ذلك، وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيخلو، كما خلوا، فجملة قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول. والقصر قصر إفراد، كأنهم استبعدوا هلاكه، فأثبتوا له صفتين: الرسالة، وكونه لا يهلك، فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل: هو: قصر قلب. وقرأ ابن عباس: {قد خلت من قبل رسل} ثم أنكر الله عليهم بقوله: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي: كيف ترتدّون، وتتركون دينه إذا مات، أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو، ويتمسك أتباعهم بدينهم، وإن فقدوا بموت، أو قتل، وقيل: الإنكار لجعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته، أو قتله، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل؛ لكونه مجوّزاً عند المخاطبين.
قوله: {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} أي: بإدباره عن القتال، أو بارتداده عن الإسلام {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} من الضرر، وإنما يضرّ نفسه {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أي: الذين صبروا، وقاتلوا، واستشهدوا؛ لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام، ومن امتثل ما أمر به، فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه.
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} هذا كلام مستأنف يتضمن الحثّ على الجهاد، والاعلام بأن الموت لا بدّ منه. ومعنى: {بِإِذُنِ الله} بقضاء الله، وقدره، وقيل: إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وسلم، فبين لهم أن الموت بالقتل، أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير محتارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله. وقوله: {كتابا} مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن معناه كتب الله الموت كتاباً. والمؤجل: المؤقت الذي لا يتقدّم على أجله، ولا يتأخر. قوله: {وَمَن يُرِدِ} أي: بعمله {ثَوَابَ الدنيا} كالغنيمة، ونحوها، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا، وإن كان السبب خاصاً {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من ثوابها على حذف المضاف {وَمَن يُرِدِ} بعمله {ثَوَابَ الأخرة} وهو الجنة نؤته من ثوابها، وتضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة {وَسَنَجْزِى الشاكرين} بامتثال ما أمرناهم به كالقتال، ونهيناهم عنه كالفرار، وقبول الإرجاف.
وقوله: {وَكَأَيّن} قال الخليل، وسيبويه: هي، (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، وثبتت معها، فصارت بعد التركيب بمعنى (كم)، وصوّرت في المصحف (نوناً)، لأنها كلمة نقلت عن أصلها، فغير لفظها لتغيير معناها، ثم كثر استعمالها، فتصرّفت فيها العرب بالقلب، والحذف، فصار فيها أربع لغات قريء بها: أحدها: كائن مثل كاعن، وبها قرأ ابن كثير، ومثله قول الشاعر:
وَكَائِن بِالأبَاطِح مِن صَديق *** يراني لَوْ أصِبْتُ هو المُصَابَا
وقال آخر:
وَكائِن رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّج *** يجيءُ أمَامَ الرَّكْب يَرِدْى مُقَنَّعا
وقال زهير:
وَكَائِنُ تَرى مِن مُعْجَبٍ لَكَ شَخْصه *** زَيَادته أوْ نَقْصه فِي التَّكلُمِ
{وكأين} بالتشديد مثل كعين، وبه قرأ الباقون، وهو الأصل. والثالثة: كأين مثل كعين مخففاً. والرابعة كيئن بياء بعدها همزة مكسورة، ووقف أبو عمرو بغير نون، فقال كأي: لأنه تنوين، ووقف الباقون بالنون. والمعنى: كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {قتل} على البناء للمجهول، وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون في {قتل} ضمير يعود إلى النبيّ، وحينئذ يكون قوله: {مَعَهُ رِبّيُّونَ} جملة حالية، كما يقال: قتل الأمير معه جيش، أي: ومعه جيش، والوجه الثاني: أن يكون القتل، واقعاً على ربيون، فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى: قتل بعض أصحابه، وهم الربيون.
وقرأ الكوفيون، وابن عامر: {قاتل} وهي قراءة ابن مسعود، واختارها أبو عبيد، وقال: إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل، ولم يقتل، فقاتل أعمّ، وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى. والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن: ما قتل نبيّ في حرب قط، وكذا قال سعيد بن جبير، {والربيون} بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ عليّ بضمها، وابن عباس بفتحها، وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب، والربى بضم الراء، وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء، وضمها، وهي الجماعة، ولهذا، فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل: هم الأتباع؛ وقيل: هم العلماء. قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله، والعبادة، ومعرفة الربوبية.
وقال الزجاج: الربيون بالضم: الجماعات. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} عطف على قاتل، أو قتل. والوهن: انكسار الجدّ بالخوف. وقرأ الحسن: {وهنوا} بكسر الهاء، وضمها. قال أبو زيد: لغتان وهن الشيء يهن، وهناً: ضعف، أي: ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم. {وما ضعفوا} أي: عن عدوّهم {وَمَا استكانوا} لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة، والخضوع، وقريء: {وما وهنوا وما ضعفوا} بإسكان الهاء، والعين.
وحكى الكسائي {ضعفوا} بفتح العين، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أُحد، وذلّ، واستكان، وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان، ولم يصنع، كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل.
قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} أي: قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول، وقولهم منصوب على أنه خبر كان. وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم. وقوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} استثناء مفرغ: أي: ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون، أو قتل نبيهم: {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} قيل: هي الصغائر. وقوله: {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} قيل: هي الكبائر، والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة، أو كبيرة، والإسراف ما فيه مجاوزة للحدّ، فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مواطن القتال: {فاتاهم الله} بسبب ذلك {ثَوَابَ الدنيا} من النصر، والغنيمة، والعزة، ونحوها {وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: ثواب الآخرة الحسن، وهو نعيم الجنة، جعلنا الله من أهلها.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} قال: تداول من الكفار، والمؤمنين في الخير، والشرّ.
وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال: أوّل ما نزل من آل عمران، {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} ثم أنزل بقيتها يوم أحد.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن في قوله: {هذا بَيَانٌ} يعني: القرآن.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يعلون علينا» فأنزل الله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعل فلان، فنعى بعضهم لبعض، وتحدّثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في همّ وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين، فوقهم على الجبل، وكانوا على أحد مجنبتي المشركين، وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي فرحوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا قوّة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر، فلا تهلكهم» وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك {وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ} قال: وأنتم الغالبون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قال: جراح وقتل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} قال: إن يقتل منكم يوم أحد، فقد قتل منهم يوم بدر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} قال: كان يوم أحد بيوم بدر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، من طريق ابن جريج، عن ابن عباس في قوله: {وَتِلْكَ الأيام} الآية، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين، وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً.
وأخرج ابن جريج، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} قال: إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهمّ ربنا أرنا يوماً، كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً، ونلتمس فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
وأخرجا عنه في قوله: {وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ} قال: يبتليهم {وَيَمْحَقَ الكافرين} قال: ينقصهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: ليتنا نقتل، كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبلي فيه خيراً، ونلتمس الشهادة، والجنة، والحياة، والرزق، فأشهدهم الله أحداً، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم. فقال الله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} الآية.
وأخرج ابن المنذر عن كليب قال: خطبنا عمر بن الخطاب، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول: إنها أحدية، ثم قال: تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فصعدت الجبل فسمعت يهودياً يقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحداً يقول: قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه، فنزلت هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأوّل، فأنزل الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}.
وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه.
وأخرج أيضاً عن عليّ في قوله: {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} قال: الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه، فكان عليّ يقول: كان أبو بكر أمير الشاكرين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم عنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قتل عليه حتى أموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود في قوله: {رِبّيُّونَ} قال: ألوف.
وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال: الربة الواحدة ألف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {رِبّيُّونَ} قال: جموع.
وأخرج ابن جرير عنه قال: علماء كثير.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَمَا استكانوا} قال: تخشعوا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} قال: خطايانا.


لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركو العرب؛ وقيل اليهود والنصارى. وقيل: المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. وقوله: {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} أي يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} أي ترجعوا مغبونين. وقوله: {بَلِ الله مولاكم} إضراب عن مفهوم الجملة الأولى: أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره؛ وقريء: {بل الله} بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله.
قوله: {سَنُلْقِى} قرأ السَّخْتِيَانّي بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالنون. وقرأ ابن عامر، والكسائي: {الرعب} بضم العين. وقرأ الباقون بالسكون، وهما لغتان، يقال: رَعَبْتُه رُعباً، ورُعُباً، فهو مرعُوب، ويجوز أن يكون مصدراً، والرعب بالضم: الاسم، وأصله المَلء، يقال: سْيل راعب، أي: يملأ الوادي، ورعبت الحوض: ملأته، فالمعنى: سنملأ قلوب الكافرين رعباً، أي: خوفاً، وفزعاً، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، ومجازاً في غيرها، كهذه الآية، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين، وقالوا: بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم؛ ارجعوا، فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا، عما هموا به: {بِمَا أَشْرَكُواْ بالله} متعلق بقوله: {سَنُلْقِى} و{ما} مصدرية، أي: بسبب إشراكهم {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} أي: ما لم ينزل الله بجعله شريكاً له حجة، وبياناً، وبرهاناً، والنفي يتوجه إلى القيد، والمقيد، أي: لا حجة، ولا إنزال، والمعنى: أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل. والمثوى: المكان الذي يقام فيه، يقال ثوى يثوي ثواءً.
قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين، وتسعة نفر بعده؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة، وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة. والحسّ: الاستئصال بالقتل، قاله أبو عبيد. يقال: جراد محسوس: إذا قتله البرد، وسنة حسوس: أي: جدبة تأكل كل شيء. قيل: وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى حسه: أذهب حسه بالقتل، وتحسونهم: تقتلونهم، وتستأصلونهم، قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسَّاً فأصْبَحت *** بِقيَّتهُم قد شُرِّدوا وتَبَدَّدوا
وقال جرير:
تَحُسَّهُم السّيوفُ كما تسامىَ *** حَرِيقُ النَّارِ في الأجِمِ الحَصِيدِ
{بِإِذْنِهِ} أي: بعلمه، أو بقضائه {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي: جبنتم وضعفتم، قيل: جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم، وقال الفراء: جواب حتى قوله: {وتنازعتم} والواو مقحمة زائدة، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}
[الصافات: 103] وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم، وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي: حتى إذا تنازعتم، وعصيتم فشلتم. وقيل: إن الجواب عصيتم، والواو مقحمة.
وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118]، وقيل: {حتى} بمعنى (إلى)، وحينئذ لا جواب لها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: نثبت في مكاننا، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى قوله: {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد، كما تقدّم: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني: الغنيمة {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة} أي: الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} لما علم من ندمكم، فلم يستأصلكم بعد المعصية، والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين، وقيل: للرماة فقط.
قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بقوله: {صَرَفَكُمْ} أو بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} أو بقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} وقرأه الجمهور بضمّ التاء، وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة بفتح التاء، والعين. وقرأ ابن محيصن، وقنبل: {يصعدون} بالتحتية. قال أبو حاتم: أصعدت: إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد: السير في مستوى الأرض، وبطون الأودية، والصعود: الارتفاع على الجبال، والسطوح، والسلالم، والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على القراءتين.
وقال القتيبي: أصعد: إذا أبعد في الذهاب، وأمعن فيه، ومنه قول الشاعر:
ألا أيها ذا السَائِلي أيْنَ أصْعدت *** فِإنَ لَها من بَطِن يَثرِبَ مَوْعِدا
وقال الفراء: الإصعاد: الابتداء في السفر، والانحدار: الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة، وإلى خراسان، وأشباه ذلك: إذا خرجنا إليها، وأخذنا في السفر، وانحدرنا: إذا رجعنا.
وقال المفضل: صعد، وأصعد بمعنى واحد. ومعنى: {تَلْوُونَ} تعرجون، وتقيمون، أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته: {على أَحَدٍ} أي: على أحد ممن معكم، وقيل: على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: {تلون} بواو واحدة، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء، وهي لغة. قوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ} أي: في الطائفة المتأخرة منكم، يقال جاء فلان في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس، وأخريات الناس. وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عباد الله ارجعوا» قوله: {فأثابكم} عطف على صرفكم، أي: فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم، أو غماً موصولاً بغمّ بسبب ذلك الإرجاف، والجرح، والقتل، وظفر المشركين، والغمّ في الأصل: التغطية، غميت الشيء: غطيته، ويوم غمّ، وليلة غمة: إذا كانا مظلمين، ومنه: غمّ الهلال، وقيل: الغمّ الأول: الهزيمة، والثاني: الإشراف من أبي سفيان، وخالد بن الوليد عليهم في الجبل.
قوله: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} اللام متعلقة بقوله: {فأثابكم} أي: هذا الغمّ بعد الغمّ لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، تمريناً لكم على المصائب، وتدريباً لاحتمال الشدائد.
وقال المفضل: معنى: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} لكي تحزنوا، و{لا} زائدة كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي: أن تسجد، وقوله: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أي: ليعلم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} قال: لا تنتصحوا اليهود، والنصارى على دينكم، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ يقول: إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردّكم كفاراً.
وأخرج ابن جرير، عنه في قوله: {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} قال: كان الله وعدهم على الصبر، والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا مصافهم، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة. وقصة أحد مستوفاة في السير، والتواريخ، فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} قال: الحسّ: القتل.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه. قال: الفشل: الجبن.
وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله: {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} قال: الغنائم، وهزيمة القوم.
وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} قال: يقول الله: قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم.
وأخرج أيضاً عن ابن جرير نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس: {إِذْ تُصْعِدُونَ} قال: أصعدوا في أحُد فراراً، والرسول يدعوهم في أخراهم: «إليّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا».
وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف: {فأثابكم غَمّاً بِغَمّ} قال: الغمّ الأوّل بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل: قتل محمد، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {غَمّاً بِغَمّ} قال: فرّة بعد الفرّة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال: الغم الأوّل: الجراح والقتل، والغم الآخر: حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله.


الأمنة، والأمن سواء، وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي منصوبة بأنزل. و{نعاساً} بدل منها، أو عطف بيان، أو مفعول له، وأما ما قيل: من أن {أمنة} حال من {نعاساً} مقدّمة عليه، أو حال من المخاطبين، أو مفعول له، فبعيد. وقرأ ابن محيصن: {أمنه} بسكون الميم. قوله: {يغشى} قريء بالتحتية على أن الضمير للنعاس، وبالفوقية على أن الضمير لأمنة، والطائفة: تطلق على الواحد، والجماعة، والطائفة الأولى: هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلباً للأجر، والطائفة الأخرى هم: مُعَتِّب بن قشير، وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة، وجعلوا يناشدون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى: {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} حملتهم على الهمّ، أهمني الأمر: أقلقني، والواو في قوله: {وَطَائِفَةٌ} للحال، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال، وقيل: إن معنى {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} صارت همهم لا همّ لهم غيرها. {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق} هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي: يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به، وظنّ الجاهلية بدل منه. وهو: الظنّ المختص بملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، وهو ظنهم أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر، ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق.
وقوله: {يَقُولُونَ} بدل من {يظنون} أي: يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَئ} أي: هل لنا من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد، أي: ما لنا شيء من الأمر. وهو النصر والاستظهار على العدوّ، وقيل: هو الخروج، أي: إنما خرجنا مكرهين، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} وليس لكم، ولا لعدوّكم منه شيء، فالنصر بيده، والظفر منه. وقوله: {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم} أي: يضمرون في أنفسهم النفاق، ولا يبدون لك ذلك، بل يسألونك سؤال المسترشدين. وقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} استئناف، كأنه قيل: ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل: يقولون فيما بينهم، أو في أنفسهم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} أي: لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها، فإن قضاء الله لا يردّ.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ} علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل ما فعل لمصالح جمة {وَلِيَبْتَلِىَ} الخ، وقيل: إنه معطوف على علة مطوية لبرز، والمعنى: ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان.
قوله: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} أي: انهزموا يوم أحد، وقيل: المعنى: إن الذين تولوا المشركين يوم أحد: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} لتوبتهم، واعتذارهم.
وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال: أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن.
وقد ثبت في صحيح البخاري، وغيره أن أبا طلحة قال: غشينا، ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} الآية.
وأخرج الترمذي وصححه، وابن جرير، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن الزبير بن العوّام؛ قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت انظر، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس، وتلا هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج قال: إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبيّ، وكان سيد المنافقين: قتل اليوم بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر شيء؟ أما، والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة والربيع في قوله: {ظَنَّ الجاهلية} قال: ظنّ أهل الشرك.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: معتب هو الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبيّ.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} قال: هم ثلاثة: واحد من المهاجرين، واثنان من الأنصار.
وأخرج ابن منده، وابن عساكر، عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في عثمان ورافع بن المعلى، وخارجة بن زيد.
وقد روى في تعيين: {من} في الآية روايات كثيرة.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15